إنفصال!

أن تكون سودانياً في الخارج يعني أن تعيش حياتين في آن واحد: حياة تبنيها هنا في مأمن نسبي، وحياة تراها تتمزق كل يوم عبر شاشات الهاتف، بدون استئذان؛ ربما بتحذير محتوى صادم. 

ليس شعوراً بالذنب، بقدر ما هو عبء الانفصال ؛ أن تدرك الكارثة بعقلك، لكن قلبك يحتفظ بصورة لعالم تركه خلفه. الخرطوم ليست ساكنة تنتظر العودة؛ إنها مدينة حرب، ما هي أماكنك العزيزة لكي أحدّثك عن دمارها أو حصارها؟ مراكز ثقافية؟ مسارح؟ أحياء سكنية؟ جبنات؟ محطات مواصلات؟ أريكة محددة أو حوش؟ لست متأكدا من مصير كل واحد منهم الآن لكنني اعلم انهم وان كانوا موجودين الآن فهم مهددون بقذيفة عشوائية طالما كانوا في السودان. عبر الانترنت وبدون قصد للأذى المتعمد من قبل الناس تراقب انتهاكات الوجود اليومي؛ لا يُستبعد رؤيتك لفيديو على تيك توك يظهر أفراد دعم سريع داخل منزلك، أو جنود من الجيش يحلقون شعر شاب يملك نفس قصة الشعر المختلفة التي اخترتها لنفسك. صارت السيارات أدوات حرب! تُنهب لتترك في ولاية أخرى. كيف تتابع إعلان المدينة كأرض للموت عبر نزيف بشري من الأوبئة. الأزمة التي تعالت بشدة، موجات الملاريا والكوليرا وحمى الضنك تفتك بالناس وأنت كبيت بنوافذ كبيرة مفتوحة على صحراء قد غمر رملها بستانك. وجرحك الغائر الذي لا ينفك يطلب مساعدتك، الفاشر التي تتعرض لحصار شبيه بحصار غزة، غزة التي تفطر قلبك بالفعل ولا تمتلك تصورًا عن معاناة أهلها بدقة بتعداد الوفيات، بإعلانات الهجمات، بمحاولات الاجتياح، بالجوع الشديد الذي يُستعان عليه بعلف الحيوانات صرت تفهم. شيئ منك يموت وأنت تشاهد كل هذا النزيف بقلة حيلة، تعلم أن الإنسان الذي يحاول النجاة يألف كل شيء خبره بعد مدة معينة من استمراره. ماذا لو كان هذا الانفصال تألفَا خجولا مع عالم الإبادة؟ لا تعلم كيف تشعر جرّاء كونك أفضل حالاً من ملايين السودانيين الذين يواجهون الجوع والعنف المباشر. هل يحق لك الحديث عن تحديات تجديد إقامتك وتكلفة إيجار منزلك الحالية ومظاهر التمييز التي تواجهها؟ هل يحق لك كتابة نص عن مشاعرك من خارج السودان؟ تناقض معقد يدفع المشاعر إلى حالة من الانفصال. أنت لا تنكر الأذى والفقد والدمار الذي لحق بالناس. لكنك متخم بالعجز والغضب. عقلك يختار تجميد صورة العالم الذي غادرته.  رغبة في الإبقاء على تلك الخرطوم الوديعة، والمنزل الطيب، وشوارع مألوفة ذاكرة تخدم كخيمة حماية مؤقتة يمكن أن تعود إليها. في تقديري هذا الانفصال ليس هروباً، بل هو آلية للبقاء. إن تشييد عالم جديد في مكان آخر يتطلب تركيزاً لا يتحمل ثقل المشاهد المحترقة كل لحظة.  إننا تفصل بين الواقع القاسي الذي يُعرض علينا يومياً وبين الحلم الكامن بعودة، حتى لو كانت العودة إلى مجرد ذكرى مُصانة. في النهاية، هذه الازدواجية هي ثمن اللجوء. أن ننجح في بناء أمل شخصي في الخارج، بينما ندفع ثمنه بمشاهدة الوطن يحترق، محتفظين بصورة لعالم جميل في الذاكرة، نأمل أن يعود يوماً ما.

Media Mesahat