ليست بالضرورة مأساة!

غالباً ما يتم اختزال قصص النزوح في مأساة، لسنا ضحايا في هذه القصة بالذات. ككوير وفدوا القاهرة برز أن اللجوء يحمل في طياته كذلك أحلاماً مؤجلة وفرصاً للتحرر الهوياتي. إن قصصنا لا تتحدث فقط عن النجاة من الحرب، بل عن استعادة الجسد وإعادة بناء الذات في ظروف استثنائية في السودان بطريقة أو بأخرى عشنا الإخفاء القسري؛ كانت السلطة الاجتماعية ورقابة المجتمع تفوق أي سلطة ذاتية على أجسادنا وهوياتنا. مع اندلاع الحرب، تحولت رحلة النزوح إلى مصر إلى رحلة ذات مسارين: البحث عن أمان جسدي، والبحث عن التحرر الهوياتي. الحرب، بسخرية قاسية، منحتنا المسافة الجغرافية اللازمة لبدء مرحلة جديدة ربما أرحب. فضاءً للوجود والملكية الذاتية لم تكن مجرد مدينة لجوء، بل أصبحت أرضاً لتحرر محتمل. على عكس "الوطن" لدي هنا حرية حركة نسبية وسعة غير مسبوقة في سوق الملابس؛ لم تكن هذه مجرد أسواق، بل أدوات مساعدة سمحت باستعادة  على الجسد.من التعبير النظري إلى الفعل الملموس،  امرأة العابرة، "أمل" وجدت القدرة على ارتداء شعر مستعار والتصوير العلني، لتوثيق انتصارها. "نادية" مارست حريتها المطلقة باختيار ألوان الجريئة وقياسات مختلفة، محولةً الشارع إلى مسرح شخصي لسيادتها على مظهرها الخارجي. أنا -رجل عابر- لي الآن حلق أعلى حاجبي حاجب، وشم يقول: يستمر الصراع.. النصر حتمي! A lute continua vetoria a certa K أرتدي الجلابية يوم الجمعة باختيار واعٍ، ليس رفضاً للثقافة، بل استعادة لملكية التراث وتنقيته من القيود. هذه التجارب البسيطة والجريئة أثبتت أن التعبير عن الذات يمكن أن يصل إلى قمة التحدي والاحتفاء. فحضور  "دراق سحور" خلال شهر رمضان في القاهرة كان دمجاً رمزياً مذهلاً؛ إعلان عن الهوية في مكان عام، في سياق فني مدمج في طقس اجتماعي له جذوره الدينية. هذا الفعل هو دليل قاطع على أن اللجوء خلق فضاءً جديداً للوجود.ولم يقتصر الأمل على التجارب الفردية؛ ففي خضم هذا التحول، لم نَظل معزولين. لقد فتحت القاهرة أبوابها ليصبح التحرر تجربة مشتركة، قابلنا كويريين مصريين ونجحنا في استلطاف البعض وتكوين شبكة دعم. هذا اللقاء كسر حاجز العزلة التي فرضتها الحرب والتهجير، ويجعل من القاهرة نقطة التقاء وأمل بناء مجتمع كويري عابر للحدود يجد فيه الجميع الأمان. قصصنا جميعاً تُذكر بأن الأمان الحقيقي للاجئ لا يقتصر على سقف يحميه، بل يتسع ليشمل الأمان الهوياتي. إنها رسالة بأن النجاة تكمن في التحرر من القمع المزدوج؛ قمع الحرب، وقمع الهوية. كل لحظة تحرر، من الجلابية إلى الباروكة إلى الدراق سحور، هي نصر يُحسب على الظروف القاسية، ويُبشر بأن اللجوء لا يحمل مأساة كاملة، بل يحمل في طياته أمل بناء الذات والعيش على الحقيقة.

Media Mesahat