كوير
يبدو أن المجتمع الكويري في العالم العربي محاصرٌ من جهتين: من جهة، قمع الدولة والمؤسسات؛ ومن جهة أخرى، شعور دائم بالعزلة والاغتراب. ليس لأننا غائبون عن الواقع، بل لأننا نتحدث غالبًا بلغة لا تُشبهنا، ونستخدم مفاهيم ومرجعيات لم تولد في سياقاتنا. خطابنا، في كثير من الأحيان، مستوردٌ من أماكن وتجارب لا تنتمي إلى بيئتنا، ولا تُخاطب جمهورنا ولا تُترجم وجعنا.
لكن وجودنا سابقٌ لهذا الخطاب. نحن حاضرون منذ زمن بعيد: في الشارع، في الأغاني القديمة، في الأمثال الشعبية، في السينما، في القصص التي تُروى همسًا، وفي الأسماء التي استُخدمت كشتائم، والتي ربما آن الأوان أن نفكّر في استعادتها كأدوات مقاومة. كلمات مثل “شاذ” و”خول” ليست غريبة عن الثقافة العربية. بل الغريب هو أن نُقصي هذه الكلمات تمامًا لصالح مصطلحات مستوردة، ثم نطالب الناس أن تعترف بنا ونحن نتحدث بلغة لا تَعبُر إليهم.
حين يسمع الناس كلمات مثل “كوير”، أو “مثلي”، أو “لاجندري”، يتساءلون فورًا: ما هذا؟ أليست هذه أجندة غريبة؟ لماذا لا تبدو هذه المفردات مألوفة؟ قد لا يكون هذا التساؤل رفضًا حتميًا، كما أن تغيير الخطاب لا يضمن القبول، لكنه يظل أداة ضرورية لكسر العزلة وفتح باب للفهم أو على الأقل للاشتباك. ومع هذا، يستمر الخطاب الكويري العربي في استعارة المصطلحات والمفاهيم دون مساءلة حقيقية.
واللافت أن الكثيرين ينسون أن كلمة “كوير” نفسها لم تكن يومًا مصطلحًا محايدًا. لقد كانت في اللغة الإنجليزية كلمةً مهينة، تُستخدم كسلاح لنبذ المختلفين، تمامًا كما تُستخدم كلمة “خول” في مجتمعاتنا. لكن المجتمعات الكويرية الغربية خاضت صراعًا طويلًا من أجل استعادة هذه الكلمة، وأعادوا تعريفها، وألبسوها معناهم الجديد، إلى أن كُسرت وصمتها. لم تُمحَ دلالتها المهينة بالكامل، لكنها فقدت قدرتها على الأذى. لم يحدث هذا التغيير عبر الترجمة، بل عبر الاشتباك السياسي والاجتماعي والثقافي مع الكلمة وسياقاتها.
أما نحن، فغالبًا ما تجاهلنا هذا الدرس. لم نخض المسار ذاته، بل أخذنا النتيجة الجاهزة. استخدمنا “كوير” بعد أن تم تطهيرها هناك، من غير أن نمر بالتجربة أو نخلق تجربتنا الخاصة. هكذا بقي خطابنا مُعلّقًا بين لغتين: لغةٍ نخجل من استعادتها، وأخرى نستعيرها دون اشتباك نقدي، ثم نُفاجأ بأن الناس لا تتفاعل معنا.
لكن، ماذا لو انطلق الخطاب الكويري العربي من بيئتنا؟ من لهجاتنا، من آلامنا اليومية، من اشتباكاتنا السياسية والاجتماعية والدينية؟ ماذا لو عبّرنا عن وجودنا بأدوات مفهومة، بمصطلحات قريبة من الناس، بأسماء مألوفة وإن كانت مؤلمة؟ ماذا لو تفاعلنا مع القضايا الكبرى – من القمع والفقر والتهميش والحرب والنفي – بوصفنا جزءًا من هذا العالم، لا غُرباء عنه؟
نحن بحاجة إلى خطاب سياسي متماسك، على أن يكون نابعًا من أرضنا، من ذاكرتنا، من وجعنا. لا خطاب يعتذر عن وجوده، ولا ينتظر اعترافًا خارجيًا، بل يفرض نفسه لأنه ببساطة موجود، ويُعبّر عن نفسه بلسانٍ مألوف.
التحرر لا يبدأ من الترجمة، بل من التسمية. لا من محاكاة العالم، بل من تسمية أنفسنا… بأصواتنا.