نانسي العقيد تكتب: بين الخوف من المرض وآثار العلاج


هل هناك دواءٌ نهائيٌّ وفعّالٌ للقضاءِ على الفيروس الأخطرِ والأكثرِ تحدِّيًا في العالم، وهو فيروس نقص المناعة البشريّ (العوز المناعيّ البشريّ)؟! ومتى ينتهي هذا الكابوس الّذي ألقى بثقلِه طويلًا على البشريّة عمومًا ومجتمعاتِ الميم.ع خصوصًا؟

منذ اكتشافِ وتسجيلِ أول حالات الفيروس عام 1981 وتتحمّل مجتمعاتُ الميم.ع اللّومَ الأكبرَ على انتشارِه، حتّى أنّ الصحافة والإعلام حين بدايةِ ظهورِ الفيروس أسموه "نقص المناعة المرتبط بـالمثليّين - Gay-Related Immune Deficiency"؛ ومع تغييرِ المسمّى الرّسميّ للفيروس واالوصمة المُلازِمة له، واكتشافِ الأدوية الّتي تحدُّ من انتشارِه، مازال هناك الكثيرُ من التّحدّيات الّتي تواجُه المتعايشين/ات مع الفيروس، وأهمُّها تجاوزُ الأعراض الجانبيّةِ للأدويةِ الضّروريِّ تناولها للتّعايشِ مع الفيروس والحفاظ على قدراتِ الجهاز المناعيّ.

بداية البحث عن علاج

في الثّمانينات، لم يكن هناك أيّة أدويةٍ لعلاج العدوى بفيروس نقص المناعة البشريّ، فقد كانت الإصابةُ به تعني عمليًّا الإصابة بالإيدز، وكان تشخيصُ "فيروس نقص المناعة البشريّ" معادِلًا لـلحُكمِ بالموت، وانتشرَ حينَها الخوفُ من وباءٍ حقيقيٍّ؛ وفي عام 1987 ظهرت أولى الأدوية في السوق، والّتي على الأقل يمكنُ أن تبطِئَ تطوُّرَ المرضِ، رغم آثارِها الجانبيّةِ الخطيرة.

عقار "زيدوفودين"، المكتَشَف قبل ظهورِ الفيروس بسنوات، تمَّ استخدامُه كأوّلِ عقارٍ في محاولةٍ للسّيطرةِ على انتشار الفيروس، ولكن سُرعانَ ما تمّ اكتشافُ قدرةِ الفيروسِ العالية على التّطوُّرِ ومقاومة تأثيرِه.

في مطلع التّسعينات، تمّ ضمُّ عقارٍ جديدٍ ضمن البروتوكول العلاجيّ وهو "ديدوكسيتيدين"، وأُطلِق عليه "العلاجُ ثنائيُّ الأدوية"، في محاولةٍ لتقليلِ قدرة الفيروسِ على نسخِ نفسِه ممّا يحدُّ من انتشارِه. لكن بخلافِ أهمّيّة الحصول على الجرعةِ مرّتين أو ثلاث مرّات يوميًّا مدى الحياة، كانت هناك الكثيرُ من الأعراض الجانبيّة الّتي تمَّ الإبلاغُ بها للأطبّاء، وأكثرُها شيوعًا كان: الغثيان والقيء والصّداع، بالإضافة للآثار النّفسيّة المترتّبةِ على الخوف من نسيان الجُرعة، كذلك عجز الدّواء في بعض الحالات عن الحدِّ من انتشار الفيروس وشعورِ المتعايش/ة بعدم جدوى العلاج.

في التّسعينات تمَّ تعديلُ البروتوكول مجدّدًا، وسُمِّيَ حينها "العلاج بمضادات الفيروسات القهقريّة النّشطة للغاية". في بداية ظهوره كان نظامَ علاجٍ يتكوّن عادةً من مزيجٍ من ثلاثةٍ أو أكثر من الأدوية المضادّة للفيروسات القهقريّة (كان يُدعى أيضًا نظام العلاج الثُّلاثيّ)، لكن من عيوب ذلك النّظام -رغم فاعليّته- وجوب أخذ الكثير من الأدوية مرّتين على الأقلّ يوميًّا، كذلك ربط بعض الأدوية ببعضها دون الأدوية الأخرى، ووجوبِ أن يُؤخذ بعضُها مع الطعام وبعضًا بدونه؛ كان نظامًا معقّدًا، ممّا كان يقلّل قدرة المتعايش/ة على الالتزام، وكذلك ظهور العديد من الأعراض الجانبيّة الّتي صُنِّف بعضُها كشديد الخطورة مثل: الاعتلال العصبيّ المحيطيّ، وتثبيط نقيّ (نخاع) العظم، وفقر الدّم، وكذلك تضخُّم الكبد.

النّظام الحاليّ

حاليًّا يتوفّر أكثر من 30 دواءٍ مضادٍّ للفيروسات القهقريّة، بما في ذلك العديد من التّركيبات ذات الجرعة الثّابتة والّتي يحتوي القرص الواحد منها على دواءَين أو أكثر من فئة أدويةٍ واحدةٍ أو أكثر. واليوم، يسيطر الكثير من المتعايشين/ات على فيروس نقص المناعة البشرية لديهم عن طريق تناول قرصٍ واحدٍ أو اثنين من الأدوية، مرّةً واحدةً فقط يوميًّا ضمن البروتوكول العلاجيّ الحاليّ.

بالرّغم من التّطوُّر الشّديد في العلاج إلا أنّه لا يمكن الشفاء من عدوى فيروس العوز المناعيّ البشريّ، ولكن يمكن علاجُه باستخدام الأدوية المضادّة للفيروسات القهقريّة، الّتي تعملُ على وقفِ وتقليلِ تناسخ الفيروس. ويمكنُ للعلاج المضادّ للفيروسات القهقريّة أن يؤدّيَ إلى تدنِّي مستويات الفيروس في الجسم بحيث يمكن للجهاز المناعيّ أن يعملَ بشكلٍ طبيعيٍّ ويتمتعَ الشّخصُ المتعايش مع الفيروس بصحّةٍ جيّدةٍ، على أن ت/يلتزم بالعلاج؛ كما تقلُّ احتمالات انتقالِ الفيروس من الأشخاص المتعايشين/ات مع الفيروس إلى الآخرين، عندما يكونُ العلاج ناجحًا.

العلاج وآثاره الجانبيّة

تبدأُ التّحدّيات لدى المتعايش/ة بالاعتراف بالحالة المرضيّةِ ووجوب تقبُّل التّغيير في حياته/ا، حيث سيتوجّبُ -في المرحلة الأولى من العلاج- توخّي الحذر فيما يخص الممارسة الجنسيّة الآمنة، والحرص على تلقّي العلاج في موعدٍ يوميٍّ ثابتٍ مع الالتزامِ بتعليمات الطبيب/ة، والأهمُّ، تلقّي الدّعم النفسيّ المناسب سواءً من الأصدقاء المقرّبين أو من مقدّمي خدمات الدّعم النفسيّ. كذلك ت/يعاني المتعايش/ة من الشُّعور الدّائم بالوصمِ والخوف من نقل العدوى للآخرين، بالإضافةِ للخوف من المستقبلِ غير المعلوم نظرًا لكثرة المعلومات المغلوطةِ المنتشرة عن التّعايش مع الفيروس.

يتكوّن العلاج الحاليُّ -غالبًا- من عقارَين، أشهرها، وهما المستخدَمَين في مصر:

- تروفادا: وهو دواءٌ مركّبٌ من عقاريّ (تينوفوفير/إمتريسيتابين) وينتمي لعائلة الأدوية "مثبّطات إنزيم المنتسخة العكسيّة النّكليوتيديّة"، والّذي يعمل على تعجيز الفيروس عن إعادة بناء ونسخ نفسه، ويُستخدم أيضًا في الوقاية من العدوى بالفيروس، وقد أوصَت منظّمة الصّحّة العالميّة باستخدامه في الوقاية عام 2019.

يتميّز التّروفادا بصِغر حجم القرص والجرعة الأحاديّة يوميًّا، كذلك سرعة اختفاء الأعراض الجانبيّة له مقارنةً بالأجيال السابقة من الأدوية الخاصّةِ بنفس المرض. في بدايةِ أخذِ تروفادا قد ت/يعاني المتعايش/ة من بعض مشاكل النّوم، القيء والغثيان، غازات بالمعدة وآلام بالبطن، فقدان الشهيّة بالإضافة إلى الإرهاق والضّعف العام بالجسم.. إلا أنّ معظم هذه الآثار الجانبيّة تختفي في خلال أسبوعَين من بداية تلقّي العلاج، وقد وجدت بعض الدّراسات أنّ الدّعم النّفسيّ للمتعايش/ة يؤثّر بشدّةٍ في تخفيفِ حِدّةِ الأعراض الجانبيّة. كما ويُحظَر تمامًا التّوقُّف عن تناول الدّواء بدون الرّجوع للطّبيب/ة المعالج/ة.

إلّا أنّ التّأثير طويل المدى لعقار تروفادا قد يشمل ارتفاع نسبة الدُّهون في الدّم، ارتفاع السّكر بالدّم، ضعف العضلات، بعض الخلل في وظائف الكِلى، ضيق التّنفُّس. لذلك ينصح الأطبّاء عادةً باتّباع أسلوب حياةٍ صحّيٍّ مع تناولِ العقار بممارسة الرّياضة، وتناول الأغذية الصحيّة، وتجنُّب التّدخين. يؤثّر تروفادا أيضًا على الحيوانات المنويّة، مما يؤدّي لتّشوُّه الأجنّة، ولا يُنصح بتناوله في فترة الرّضاعة، لذلك يجب التّشاور مع الطّبيب/ة المعالج/ة لدى محاولة التّخصيب والحصول على أجنّةٍ للمتعايشين/ات.

- إيفافيرنز: ينتمي إلى عائلة الأدوية المعروفةِ بـ"مثبّطات إنزيم المنتسخة العكسيّة غير النّوكليوتيديّة"، وبالدّمج مع عقار تروفادا يشكّلان مزيجًا مناسبًا لمقاومة قدرة الفيروس على التّحوُّر والتّطوُّر. الجرعة اليوميّة قرصٌ واحدٌ فقط -غالبًا تُؤخذ مع تروفادا أو العقار الآخر المحدَّد للحالة- ويُفضّل تناولُه في المساء.

ينصح الأطبّاء بتناوله بعد آخر وجبةٍ بساعتَين على الأقل، حيث تزيد الوجبات المُشبَعة بالدّهون من امتصاص الدّواء مما يزيد من شدّة آثاره الجانبيّة. وفي حالة نسيان تناول الجرعة، يجب أن تُؤخذَ فور تذكُّرها على أن يكون هناك على الأقل 12 ساعة بينها وبين موعد الجرعة القادمة (الموعد اليوميّ الثّابت)، ويُحظَر تمامًا وقف الدواء دون الرّجوع إلى الطّبيب/ة المعالج/ة.

تُعتبَر الأعراضُ الجانبيّةُ لدواء إيفافيرنز أكثر حدّةً من تروفادا وتشمل: الاكتئاب، العصبيّة والتّوتّر، وكذلك اضّطرابات النوم من الأرق والكوابيس؛ يعاني أيضًا المتعايشين/ات في بداية الحصول على العقار من الإرهاق والتّعب العامّ والدُّوار (الدّوخة)، وقد يُصاحب ذلك اضّطرابات الجهاز الهضميّ من قيءٍ وغثيان وإسهالٍ أو إمساك مع آلامٍ بالبطن، وكذلك طفحٌ جلديٌّ وحكّة.

التّأثير طويل المدى لعقار إيفافيرنز يتمثّل في ارتفاع نسبة الكوليسترول في الدّم، وارتفاع نسبة أنزيمات الكبد.

ينصحُ الأطبّاء متناولي/ات عقار إيفافيرنز باستشارتهم/ن في حال الرّغبة في الحصول على طفل/ة حيث قد يتسبّب في حدوث تشوُّهات للجنين.

العلاج في المستقبل

يأملُ المجتَمع الطّبيّ ومنظّمة الصّحّة العالميّة في السيطرة على الفيروس بحلول عام 2030 ضمن رؤية "2030 عالم بدون إيدز".. وقد ظهرت في السّنوات الأخيرة طرق علاجٍ جديدةٍ مبشّرةٍ لتحقيق تلك الرُّؤية، مثل العلاج الجراحيّ بزراعة نخاعٍ عظميٍّ يحتوي على طفرةٍ جينيّةٍ تمنعُ الفيروس من التّكاثرِ بالأساس وتعجزُه عن دخول الخلايا المُستهدَفة CD4، ممّا يمكِّنُ الجهاز المناعيّ من عزلِه وقتلِه. كذلك يعملُ الباحثون/ات على علاجٍ جديدٍ ت/يحصل عليه المتعايش/ة مرّةً واحدةً شهريًّا بدلًا من العلاج اليوميّ.

يأملُ ويعمل المجتمع الطّبيُّ على الوصول قريبًا لعلاجٍ نهائيٍّ يشفي تمامًا من الفيروس، حيث أنّ كافّة الأدوية الموجودة حاليًّا تُقلّل من الحمل الفيروسيّ فقط ولا تقضي على وجود الفيروس تمامًا.


اقرأ أكثر:

Mesahat Foundation