صوفي تكتب: صراع حول لقمة العيش والبقاء


إذا ما تحدّثنا عن الأمان وما يجعلنا نشعرُ به في حيواتِنا، يمكنُنا أن نأتيَ بأفكارٍ ومصادرَ كثيرةٍ ومتعدّدةٍ تحفّزُ لدينا الشُّعورَ به. يمكنُنا القولُ أنَّ الأمان مرتبطٌ بمشاعرَ أخرى مثل الاستقرار والاستمراريّةِ والدّعمِ، وأنّ تجاربَنا المُعاشَةَ هنالكَ من يفهمُها ويراها ويستطيعُ التّعاملَ معها باحترامٍ وتعاطفٍ في الوقتِ ذاتِه؛ لكن لا نستطيعُ أن نُنكرَ أنّ جزءًا من تحقيق الأمان مرتبطٌ باحتياجاتٍ ورغباتٍ مادّيّةٍ، بالإضافةِ للعاطفيّة أو الرّوحية. ما أريدُ التّركيزَ عليهِ، هو ذلك الجانب المادّيِّ المرتبِطِ ارتباطًا وثيقًا بتحسين أوضاعِنا الاجتماعيّةِ والاقتصاديّة، والّتي تمتدُّ لتشملَ نظراتِنا لأنفُسِنا وتحقيقِنا لذواتِنا في هذا العالم، وبالتّالي فتلك الاحتياجات المادّيّةُ لها أيضًا جانبٌ مرتبطٌ بالمشاعرِ والأفكارِ الّتي نسقِطُها على أنفُسِنا وغيرِنا من النّاس؛ يأخذُنا هذا إلى العملِ ومحوريّتِه في شعورنا بالأمانِ داخل المجتمعِ الّذي نتواجدُ فيه، وعندما نتحدّثُ عن الأشخاصِ العابرات\ين نجدُ أنّ العملَ ملفٌّ هامٌّ يجبُ طرحُه ومناقشتُه لما به من التباسٍ وتعقيدٍ في تجاربِ أغلب العابرات\ين في مصر.

يجبُ الإشارة إلى أنّ تجارب العابرات\ين متنوّعةٌ ومختلفةٌ ولا نستطيع تلخيصَها في مقالٍ واحدٍ، أو تحديدَها في أيّةِ تحليلٍ أو سردٍ أُحاديٍّ، حيث أنّ هنالكَ عناصرَ مختلفةً تتقاطعُ لتُشكِّلَ واقعَ كلّ عابر\ةٍ في مصرَ، مثل الطّبقة الاجتماعيّةِ والتّعليمِ والعمرِ والبيئةِ المحيطة وغيرِها؛ ولكن ما أحاولُ التّركيزَ عليه في هذا المقال هو التّوجُّهُ العامُّ للدّولةِ والمجتمعِ بمختَلفِ تجلِّياتِهم تجاهَ الأشخاصِ العابرات\ين، وتأثيرُ ذلكَ على تجارُبِ العملِ وتحقيقِ الأمانِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ في مصر. من وجهةِ نظري، الإطارُ العامُّ الّذي تتعاملُ به الدّولةُ مع العابرات\ين وسطَ عدمِ وجود وعيٍ مجتمعيٍّ كافٍ، بل أيضًا استنكارٌ مجتمعيّ، هو الّذي يحدّدُ التّوجُّهَ العامَّ لأغلبِ تجاربِ العابرات\ين في مصر مع المجال العامِّ والعملِ بالأخصّ؛ أستطيعُ أن أقول أنّ هذا الإطارَ يشملُ علاقةً جدليّةً غامضةً وغير واضحةٍ في التّعاملِ مع العابرات\ين وأجسادهم\نّ، حيثُ هنالك اعترافٌ غير شاملٍ، أو اعترافٌ يشملُ تحفُّظاتٍ عديدةً من قِبل الدّولةِ وتجلّياتِها المختلفةِ. ما أعنيه هو، أنّهُ نعم يوجدُ طريقٌ مشروعٌ للعبورِ داخل مصرَ يبدأُ بالتّحصُّلِ على تقريرٍ طبيٍّ، ثمّ النّقابة والعمليّات، ثمّ الإجراءاتِ القانونيّة لتغيير الأوراق الثُّبوتيّة، ولكن كلُّ تلك الخطواتِ بها عراقيلٌ مختلفةٌ، ويظلُّ الجوُّ العامُّ غامضًا مثل موقفِ الأزهرِ والنّقابةِ، كما أنّ كلّ تلك الاجراءاتِ لا تشملُ منظومة دعمٍ لدمجِ العابرات\ين داخل المجتمع، أو للتّوعيةِ، أو للحدِّ من التّمييز عامّةً بما فيهِ داخلَ قِوى وأماكنِ العمل.

كعابرةٍ جندريًّا، أستطيعُ أن أفهمَ دورَ كلٍّ من الانزعاجِ الجندريِّ والعبورِ في التّـأثيرِ على الكثيرِ من قراراتِنا وبوصلاتِنا كعابراتٍ\ين في توجيه حيواتِنا، نظرًا للظُّروفِ المحيطةِ والمُتاحةِ أيضًا. على سبيل المثالِ وليس الحصر، يعاني بعضُ العابراتِ\ين من عدم قدرةٍ على اتّخاذ قرارٍ العبور في البدايةِ بسبب خوفهم\نّ من خسارة أعمالهم\نّ ما أن يتّخذوه\نَهُ، مما يضعُ البعضَ أمام اختيارِ عدم العبور وما يتبُعه من مشاكلَ نفسيّةٍ أو العبورَ مع عدمِ الإفصاحِ، والّذي نعم يحميهم\نّ من الصّدامِ المباشرِ، ولكن ليس بصورةٍ مستمرّةٍ، مع ملاحظةِ المحيطين للتّغييرات الجسمانيّة، ما يضعهم\نّ بعد ذلك أمام اختيارِ البحث عن عملٍ آخرَ ربّما أيضًا في مجالٍ آخرَ يتَسمُ بسمومةٍ ذكوريّةٍ أقلّ، أو الوظائف الّتي تعتمد على العملِ دون الاختلاطِ المكثَّفِ داخلَ بيئةِ العمل، أو العمل من المنزلِ على سبيلِ المثال. يجبُ أن أنَوِّهَ أيضًا أن هناك بعض الأماكن الّتي تشملُ في سياساتِها مناهضة العنفِ والتّمييز بُناءًا على الهويّةِ، ولكن تلك الأماكنُ محدودةٌ ولا تضمنُ بالضّرورةِ التزام العاملينَ بالقوانينِ والسّياساتِ، كما أنّها متاحةٌ لمن ينتُمون لطبقةٍ أو مستوًى تعليميٍّ معيّنٍ، يضمنُ إتقانَ اللّغاتِ الأجنبيّةِ؛ هذا بالتّأكيد يتركُ العابرات\ين الأقلّ امتيازًا من حيث الطبقة الاجتماعيّةِ أو التّعليمِ أمام خياراتٍ ومواجهاتٍ أكثرَ قسوةً فيما يخصُّ العملَ، فنجدُ من يعملُ أعمالًا تستلزمُ مجهودًا بدنيًّا أو في وظائف حكوميّةٍ، وكثيرًا ما نسمعُ عن فصلِ أشخاصٍ عابرين\ات من تلك الوظائف بعد العبورِ، حتّى وإن تحصّلوا\ن على تقاريرَ طبيّةٍ أو خضعوا\ن لعمليّات. هذا يأخذُنا إلى نقطةٍ أخرى بها الكثيرُ من الالتباس، وهي اتّجاه بعض العابرات إلى العملِ بالجنسِ التّجاريِّ، والّذي هو من وجهة نظري عملٌ مثلُ أيّ عملٍ، ولكن في مصر لا يوجدُ أيُّ نوعٍ من التّقنينِ له، بل يوجد تجريمٌ واضحٌ، ممّا يضعُ العابرات العاملات بالجنسَ عُرضةً ليس فقط للعنفِ والاستغلالِ، بل أيضًا للملاحقةِ الأمنيّةِ تحت تُهمة الفسقِ والفجورِ، وأحيانًا كثيرةً يتمُّ الحبسُ مع الرّجال أو في ظروفٍ سيّئةٍ حتّى وإن كان معهنّ تقاريرَ طبيّةً تثبتُ حالتهنّ كعابراتٍ.

هذا ليسَ بغيّةِ جعلِ الصّورةِ مظلمةً، بل لإلقاءَ الضّوءِ على القصورُ في نظرةِ الدّولةِ وتعامُلِها معنا كعابراتٍ\ين، والّذي في النّهاية يضعُنا أمامَ مواجهاتٍ قاسيةٍ وخياراتٍ محدودةٍ، ولكن لا تزالُ توجدُ نواةٌ معيّنةٌ من الممكنِ العمل عليها داخل مصر، من خلال التّشبيكِ والمناصرةِ والتّوعيةِ، للتّوسيعِ من مساحاتِ القُبولِ والدمجِ؛ على سبيلِ المثال، من الممكنِ أن نبدأَ بالتّشبيكِ مع تلك الأماكنِ الّتي بها سياساتٌ مناهضةٌ للعنفِ والتّمييزِ، للعملِ على توعيةِ العاملات\ين ووضعِ آليّاتِ محاسبةٍ ومساءلةٍ للمخالِفات\ين، والتّشبيكِ مع مساحاتٍ أخرى لنشرِ تلك السّياسات، وبالتّالي خلقِ تأثيرِ كرةِ الثّلج الّتي تبدأُ بما هو موجودٌ بالفعل، ثمّ تتضخّمُ وتكتنفُ المزيدَ والمزيد.


اقرأ أكثر:

Mesahat Foundation