حاتم يكتب: بلد الكراهية


وصلتُ إلى مدينة القاهرة في ذلك الخميس المشؤوم الموافق لـ ۱۰ مايو ۲۰۰۱ لأحتفلَ بعيد ميلاد أحد أصدقائي، والذي كان من المُقرَّر أن يُقام على الكوين بوت، ولحسن الحظ تمّ تغيير المكان قبل الاحتفال بيَومين.

الكوين بوت! لقد كنتُ أحبَّ ذاك المكان بجنون، فإنك وبمجرّد أن تدخلَه في أيّةِ ليلةٍ من ليالي الخميس، ستجدُ الموسيقى الصاخبة والرقص والضحك يرحّبون بك، كأنّك بالفعل في إحدي حانات حي لومارييه بباريس. لم يكترث أحدٌ لوجودِنا أو مضايقتِنا  هناك من قبل، ونظراً لعدم وجود منصّاتٍ مُتعارَفٍ عليها لتجمُّعِ وتعارُف المثليّين في ذلك الوقت فكان هو أحد الأماكن التي تُعتبر منفساً حقيقيَّاً لتجدَ أناساً يُشبِهونَك، حتى طاقَم العمل من المغايرين لم ينظروا إلى أحدٍ نظراتٍ دونيّةٍ، بل بالعكس كانوا دائماً يقابلونكَ بالتّرحاب.

لم يكُن عمري قد تعدَّى العشرين عاماً في ذلك الوقت، وكانت تربطُني علاقاتُ صداقةٍ قويةٍ مع أُناسٍ أكبر مني سنّاً، بل ومنهم من كان فارقُ السنّ بيننا كبيراً جداً؛ معظمُ أصدقائي في ذلك الوقت لم يكونوا مِصريّين ولكن كان يربطُنا شيءٌ واحدٌ وهو أننا جميعاً مثليُّون.

تلقّيتُ اتّصالاً هاتفيّاً من صديقي الفرنسي (جاك) الذي كان يعيش في القاهرة منذ سنوات، ويعمل مصمِّماً في شركة أزياء، وبعد التّحياتِ والسُّؤال عن الأحوال، اقترحَ عليَّ أن نتقابلَ قبلَ موعد الاحتفالِ، وتوجَّهنا إلى كوين بوت. كنتُ بالفعلِ لم أرَهُ منذ فترةٍ طويلةٍ، وجلسنا نتبادلُ أطرافَ الحديثِ، كانت الأجواءُ هادئةً تماماً وكلُّ شيءٍ يبدو كالمُعتاد؛ مرَّ الوقتُ سريعاً وأدركنا حينَها أنَّه علينا أن نغادرَ المكان إلى منطقةِ مصر الجديدة لنحتفلَ بعيد ميلاد صديقنا.

مرَّت تلكَ الليلةُ بسلامٍ... فقط لأستيقظَ الصباحَ التّالي على اتّصالٍ هاتفيٍّ من أحد أصدقائي وهو يطمئنُّ عليَّ بنبرةٍ فيها قلقٌ وخوفٌ، عرفتُ بعدَها أنّ الشُّرطةَ داهمَت الكوين بوت في تلك الليلة واعتقلَت الكثير من المثليِّين؛ لم يكتفُوا بذلك، بل وتجوّلُوا في شوارع وسط القاهرة، وتمّت عمليّاتُ اعتقالاتٍ عشوائيَّةٍ لبعضٍ من المُشتَبهِ بهم، وأتمُّوها باعتقال بعض الأشخاصِ من منازلِهم ممّن كانت التَّحرِّياتُ تدلُّ على أنّهم ممّن يتردّدون على المكان.

لن أبالغَ إن قلتُ أنَّ الدُّنيا اسودّت أمامي وأنا أتخيّلُ نفسي في لحظةِ اعتقالي، مثليَ مثلُ أيٍّ من أولئكَ الأشخاص. أسرعتُ بإعدادِ حقييتي، وتوجّهتُ إلى مدينتي الصغيرة أحتمي بمنزلِ عائلتي بعيداً عن القاهرةِ ومخاطِرها؛ كنتُ أفكّرُ في كل أصدقائِي ومعارفي، ولكنّ الخوف وقتَها جعلني أقطعُ جيمع اتّصالاتي بكل من أعرف.

يالكمِّ الرُّعبِ الذي كنت أتنفَّسُه مع كلِّ رنّةٍ على جرسِ الباب، وأنا أتخيّلُ أنّهم جاؤوا ليعتقلوني... ويالنوميَ الذي باتَ مستحيلاً حينَ سكنَتهُ الكوابيسُ... ويالجسديَ الّذي أصبحَ هزيلاً في فترةٍ وجيزةٍ، وعينايَ الّتانِ اندثرَتَا وسطَ هالاتٍ من السواد...

كنتُ أتابعُ الجرائدَ كلَّ يومٍ لأعرفَ ما كُتبَ عن الأحداث، ورأيتُ وجوهاً أعرفُها جيّداً تغطّيها المناديلُ البيضاءَ خوفاً من الفضيحةِ وهم يُساقُون إلى قاعةِ المحكمة. الوحيدُ الذي دافعَ عن القضيّةِ وقتَها كان حسام بهجت، كان كاتباً في جريدة Cairo Times، وهي جريدةٌ تصدرُ أعدادُها باللّغة الإنجليزية، ولذلك لم يكُن من المصريّين مَن يتابعُها إلا القليلين جداً.

كتبوا عن المُعتَقلين أنّهم من عبَدَة الشيطان، ومن المُضحك المُبكي أنّ هناكَ جماعةٌ كان قد سبقَ اعتقالُهم في قضيّةِ عبَدة الشيطان حيثُ كانوا يمارسون طقوساً في حديقة قصر البارون، وخرجَ زعيمُهم ليتبرّى من معتقلي الكوين بوت، ويقولُ أنّهم لا يمتُّون لهم بصِلةٍ وأنهم ليسوا شواذاً.

توالتِ الأحداثُ وسط المزيد من الاعتقالاتِ العشوائيةِ بمنطقةِ وسط القاهرة، حين كثَّف طهَ الإمبابي رئيس آداب القاهرة حملاتِ القبضِ والتعذيبِ والإهانةِ ضد المثليّين. وحتى المتنفَّسُ الوحيدُ الذي وجدناه في ذلك الوقت، ألا وهو موقع الدّردشةgay.com ، لم يبقَ كثيراً من الوقت بعيداً عن أعيُنِ الشّرطةِ... فتمَّت مراقبَتُه، وزُرعَت عناصرُهم لعمل الأفخاخ والقبض على المزيدِ من الضحايا.

لم يكُن في ذلك الوقت هناك أيٌّ من مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وكلُّ علاقتِنا بالشبكةِ العنكبوتيّةِ لم تتعدَّ التعارُفَ. وتلَاها استخدامُ المُدوَّنات لتوثيق الأحداث من جانبٍ ومن جانب آخر للتنفيس، حتى اشتراك الإنترنت كان باهظَ الثّمن ولم يكُن مُتاحاً لجميع الفئات استخدامُه.

وسط كلّ تلك الأحداث كنتُ دائماً أجدُ في صديقي الفرنسي "نيكولا"، الذي كان يسكن في نفس مدينتي نظراً لطبيعة عمله، الأمان والملجأَ وقت طلب المشورة؛ وتزايدَ عددُ الهجماتِ والاعتقالاتِ التي كانت تقتصرُ على المصريّين فقطـ، إلى أن جاءَ الدّورُ على صديقي، وقد طلبَت منهُ قُوّاتُ الأمنِ أن يغادرَ البلاد في خلال ثلاثة أيامٍ فقط.

وقعَ عليَّ الخبرُ كالصّاعقةِ، ولكن لم يكُن بيدي حيلةٌ، طلبَ منّي عدم الحديث عن أيّة تفاصيلٍ أو مشاركة ما حدثَ مع أيّة شخصٍ، أيَّاً كان؛ كان هذا أفضلُ لكل المُحيطِين بصديقي. طلبتُ منه أن يفضَحَهم في الجرائد، ويجعلَ العالم يرى قُبحَهم.. ولكنّه رفضَ لأنه لا يريدُ الأذى لأيِّ أحدٍ من معارفِه داخلَ مصر، ومن ضمنِهم أنا.

ودّعتُ صديقيَ الذي لم أرَهُ منذ ذلك اليوم، ولم يكُن آخرَ من أودّعُهم، فخلالَ ستةَ أشهرٍ ودّعتُ أربعة أصدقاءٍ آخرين تمَّ طردُهم من البلادِ بنفس الطّريقة... ليسَ لسببٍ سِوى أنّهم مثليُّون، وأنّهم ينشرُون الفُسق والفُجور في الدولة.

ما بينَ اعتقالٍ وطردٍ وهروبٍ غزَوا أصدقائيَ ودائرة الأمان المحيطةِ بي، وما بينَ القلق والخوف من الاعتقالِ والفضيحةِ، انقضَت أجملُ سنين شبابي. لقد حالفَني الحظُّ أنِّي لم أكُن واحداً من المعتقلِين أو الهاربِين، لكن كلّ هذا لم يكن بعيداً عني تماماً، فالشُّعورُ بالخوفِ في كلِّ لحظةٍ هو شعورٌ قاتلٌ، وكأنَّك تنتظرُ الموت في أيّةِ لحظةٍ.


مقالات أكتر

Mesahat Foundation