قراءات كويرية من رفوف


الأدب الكويري هو الأعمال الأدبيّة من كتبٍ ورواياتٍ وقصصٍ قصيرةٍ وسِيَر ذاتيّة، المكتوبة من قِبل أشخاصٍ كويريِّين وكويريّات، أو تتناول قضايا المجتمع الكويريّ؛ وبالرغم من أن مفهومنا عن الأدب بشكله الحالي مفهومٌ حديث لكنّ مفهوم الأدب الكويري يمتدّ حتّى للمثيولوجيّات والأساطير القديمة، ولا نغالي إذا قلنا أنّ الأدبيّات الكويريّة ظهرت بظهور اللُّغات.

تمهيد

الإلياذة

بالرّغم من أنّ طبيعة العلاقة بين أخيل و باتروكلوس لم تحمل مسمًّى واضحًا وصريحًا في نصّ الإلياذة، ولكنّ العديد من الفلاسفة الإغريق اعتبروا أنّ علاقة الحب بينهما أوضح من أن تُذكَر صراحةً في النّص.

عصور الشّعر والخمر والغرام

الأدبيّات الكويريّة لم تكُن مُقتصرةً على الحضارات الأورُبّيّة، ولكنّها كذلك كانت حاضرةً بشكلٍ صريحٍ في الأدبيّات العربيّة المشهورة، وهنا نذكرُ على سبيلِ المثال لا الحصر قولَ ابنِ الرُّومي:

أفسدتْ توبَتي عليَّ غلامُ       غصنٌ ناعِمٌ وبدرٌ تمامُ

امزُجِ الرَّاحَ لي بريقِ غلامٍ      فألذُّ الهوى المعاصِي التُّؤَامُ

ومن قصيدة أبو الفتح البستي المشهورة بعنوان الحِكَم:

خذوا بدَمي هذا الغلام فإنَّه    رماني بسهمَيْ مُقلَتَيه على عَمدِ

البدايات

بالرّغم من أنّ الأدب الكويريَّ بدأ يظهر بشكلٍ كبيرٍ في القرن العشرين، إلا أن رواية (Joseph and His Friend) للأمريكيّ بيارد تايلور كانت أوّل رواية أمريكيّة تتناولُ شخصيَّاتٍ مثليَّةٍ بشكلٍ أساسيّ وكانت في سنة (1870)؛ الرّوايةُ تتناولُ علاقة جوزيف الثّري الرّيفيّ الشّاب، وفيليب الشّخص الأكثر خبرةً وتجاربَ في الحياة. التقى جوزيف وفيليب في إحدى رحلات القطار وبدأت صداقةٌ قائمةٌ على الحبِّ العُذريّ، وهو الاتّجاه الّذي تمَّ تناولُ العلاقاتِ المثليّةِ من خلالِه في الأدب الأمريكيِّ لفترةٍ طويلةٍ بعد ذلك... تستمرُّ أحداثُ الرّواية، وفي خلالِها تتوفّى زوجة جوزيف ويصبُح جوزيف موضعَ الاشتباه الأوّل بالنّسبة لسُّكان القرية، ولكن فيليب يباشرُ التّحقيقات لتبرئةِ حبيبِه وهنا تأخذُ الرّواية الشّكلَ البوليسيَّ الّذي كان رائجًا حين ذاك.

من خلال هذا المثال نلاحظُ أنَّ الكاتبَ اختار الحبكةَ البوليسيَّة الجذّابةَ للقارئ لتجعله يكمل الرِّواية للنِّهاية، وكذلك للأغراضِ التّسويقيَّة، وكذلك اعتمد اتّجاه الحبِّ العُذريّ لتجنُّب ردِّ فعلٍ عدائيٍّ من قِبل القُرَّاء المحافظين؛ وفي خلال الرواية نلاحظ أنَّ اللُّغة المُستخدَمة في الحوار بين جوزيف وفيليب، وكذلك في وصفِ مشاعرِ كلٍّ منهما للآخر كانت كلُّها تؤكِّد الانجذابَ العاطفيَّ بينهُما، ولكنَّ الكاتب لم يصِف علاقَتهما بأيِّ شيءٍ غير أنّها صداقة.

نجاح وشهرة هذا العمل شجَّعا العديد من الكُتَّاب لذكرِ شخصياتٍ مثليَّةٍ في أعمالهم مثل (The Immoralist) .

ثم جاءت رواية (Strange Brother) للأمريكية بلاير نايلز (1931) لتبدأ شكلًا جديدًا في تناول القضايا الكويريّة من خلال قصة مارك، وهو شابٌ انتقل حديثًا إلى مدينة نيويورك حيث يتعرّفُ هناك على جون الّتي سُرعان ما تصبح صديقتَه، ويبدأ التَّحوُّل في الأحداثِ باعتقال أحدِ معارفِهم وسجنِه لمدّة ستّة أشهر بسبب سلوكيَّاتِه الأنثويَّة، وهو ما دفع مارك للاطِّلاع على قانون الجرائم المُنافية للطّبيعة المعمول به آنذاك وهو ما أدخله في موجةٍ من الاكتئابِ ودفعَهُ للاعتراف بمثليّتِه لصديقته جون.... هي تبدي له الدّعم الكاملَ وتُعاونُه على التَّواصل بشكلٍ أكبرَ مع أفرادٍ مثليِّين آخرين، وبالرّغم من السّعادة الّتي وجدها مارك في مجتمعه الجديد، لكنّ التّهديدات تتواصل حتّى يُقرِّر إنهاءَ حياتِه على إثرِ بعض التّهديدات بالتّشهيرِ به في مكانِ عمله.

 تُعدُّ الرواية نقلةً كبيرةً نظرًا لكونها لم تتناول العلاقاتِ المثليّة من منظور الحبِّ العُذريّ الرّائج في الأعمال المعاصرة لها، ولم تنشغل بتقديمِ أيّة تبريراتٍ للقارئ، بقدر الاهتمام بعرضِ واقع الرجال المثليّين في ظلِّ قانونٍ يدعو للسُّخرية ويتعارض مع إعلان الحقوق والدّستور الأمريكيَّين؛ وكذلك عرَضت الصُّعوبات التي يواجهها الأفراد المثليُّون في المواعدة والتّجمُّع والتَّواصل، حيث كان الأفرادُ يسافرُون للرِّيف لقضاء العطُلات وإقامة الحفلاتِ رغبةً في البُعد عن الشّرطة وكذلك الخصوصيّة. اختيارُ الكاتبة لتلك النّهاية المؤلمة هو تعبيرٌ عن رسالة الرّواية، وهي جريمةُ قتلٍ قام بها المجتمع في حقِّ الكثيرين برفضِهم.

التّطوُّر والتّنوُّع

حتى الآن نلاحظ أنّ الأدبيّات الكويريّة لا تتناول إلّا رجالًا مثليّين بيض البشرة، ولكنّ عقد السّتّينات شهدَ أدبيّاتٍ كويريّةٍ أكثر تنوُّعًا تعرضُ أطيافًا أخرى من المجتمعاتِ الكويريّة. وأيقونةُ تلك الفترة هيMyra Breckinridge - Gore Vidal (1968)؛ تعدُّ ضمنَ أولى الرّوايات الّتي عبّرت عن مجتمعات العابرين والعابرات والّتي تناولت التّعقيدات ومعاناة الأفراد الكويريِّين مع القوالب الجندريّة من خلال قصة مايرا، و هي شابّةٌ مُحبَّةٌ للسّينما تنتقلُ لأكاديميّةٍ للفنون التّمثيليّة يمتلكُها عمُّها، وتعمل بها كمدرّسة، وفي خلال هذه الفترة نتعرّف عليها مرَّةً أخرى ولكن كامرأةٍ عابرةٍ لم تنتهِ من مراحل العبور بعد، وتمرُّ بمرحلةٍ من نقص الهرموناتِ الّتي لا تستطيعُ توفيرها فتتعرَّض بذلك لبعضِ المواقف المزعجةِ وتصبح الأمورُ أصعبَ بعد تعرُّضها لحادث سيرٍ تستأصل على إثرِه ثديَيها…

اهتمّتِ الرّوايةُ بالجانب التّعبيريّ والسَّرديّ لواقع النّساء العابرات، كما استفادتِ الرّوايةُ من أجواء الثّورةِ الجنسية لعرضِ الواقع دون الارتباط بقيودِ المجتمع وثقافته. وبذلك أصبحت الرّواية أيقونةً للتَّغيُّرات الّتي شهدها المجتمعُ الأمريكيُّ في تلك الفترة.

الأدبيّات المعاصرة

مع بداية الألفيّة أصبح الأدب الكويريُّ أكثرَ إنتاجيّةً وتعبيرًا عن المجتمعاتِ الكويريّة، واتّخذَ كذلكَ أشكالًا أخرى غير الرّوايات، بالإضافة لتناوُله قضايا المجتمعات الكويريّة الملوّنة ومحاربة العلاج التّصحيحيّ.

[insert] boy - Danez Smith (2017)

مجموعة شعريّة كتبها كاتبٌ كويريٌّ من أصولٍ أفريقيّةٍ كانت في قائمة NYT Bestseller. عبّر من خلالها الكاتب عن تفاعُلِه مع جسدِه ونفسِه وعن تفاعل مجتمعه معه كشخصٍ كويريٍّ، وتفاعلِ المجتمعات الكويريّة معه كشخصٍ من أصولٍ أفريقيّة.

The Miseducation of Cameron Post - Emily M.Danton (2012)

تتناولُ الروايةُ نشأة وشباب مونتانا، الفتاة الّتي تكتشفُ هويَّتها الجنسيّة فيُخضعها أهلُها للعلاج التّصحيحيّ حيث يؤثِّرُ عليها بالسّلب وتعاني من الاكتئاب وتحاولُ الانتحار، مما يؤدِّي إلى تغيُّرِ موقفِ أسرتها معها،  فنراهُم يبدؤون بالاستماعِ لها ومحاولةِ فهمِها وقبولِها؛ كما وركّزت الكاتبة في هذا العمل على المشاعرِ الأُسريّةِ والتّفاعلات بين أفرادِها، وعرضت أسبابَ كلّ فردٍ من الأسرة لرفضِ مونتانا، وكذلك الطريق الذي مرَّ به كلُّ فردٍ في أسرتِها ليغيّر أفكارَه وتصوُّراته.

في النّهاية، من وجهة نظرنا، إنّ أهمّ ما نرصدُه خلال قراءتِنا للأدبيّات الكويريّة هو التّغيُّرات الّتي تطرأُ على اللُّغةِ المُستخدَمةِ في تناولِ القضايا الكويريّة، وكذلك المراحل المختلفة لتناولِ القضايا الكويريّة؛ دائمًا ما تتغيّرُ اللُّغة للأفضل ودائمًا ما تظهرُ قضايا أكثر ضمن التّغطية. وكذلك نلاحظُ كيف لعبت الأدبيّات الكويريّة دورًا مهمًّا في توثيقِ أحداثٍ هامَّةٍ مرّت بها المجتمعات الكويريّةُ وما مرّت به من معاناةٍ من الرّفضِ الأُسريِّ والتّمييز الاجتماعيّ، وهو ما يجعلها أكثر من مادّةٍ أدبيَّةٍ للتّرفيه أو التّثقيف، بل هي حالةٌ تعبيريّةٌ كاملةٌ، وكانت وسيلة التّعبير الوحيدة لفترةٍ طويلة.

تمنّياتنا لقراءةٍ ممتعة. 


اقرأ أكثر:

Mesahat Foundation