السيدة ملعقة تكتب: اختياراتٌ، لكن مغلقة


تتعدّد تطبيقاتُ المواعدة في الفضاء الإلِكتروني؛ منها ما يتيحُ لك التّعرُّف على آخرين تِبعًا للتّوزيعِ الجغرافيّ، ومنها ما يقرّبُ بين اهتماماتِ الطَّرفَين، ومنها ما يُمهّدُ لاختيار الشريك/ة تبعًا للشّكل الخارجيّ في صورةٍ أو فيديو.

تبدو قراءةُ طريقة عمل التّطبيق أمرًا سهلًا لأول وهلةٍ، ولكن بسبب وجودنا في بُقعةٍ جغرافيّةٍ من الأرض ترفضُ الاختلاف وتهدّدُ أمنَنا الشّخصيّ في كلّ خطوةٍ نخطُوها، ففي تلك اللّحظة الّتي نقرّرُ فيها الضغط على اختيار الإعجاب الافتراضي على التّطبيق، قد يصحبُ هذا القرار مجموعةٌ من المخاوفِ والتّهديداتِ الافتراضيّة الّتي فرضها علينا وجودُنا في هذا البلد؛ منها، التّعاملُ مع متحرّشين، لصوص، أشخاصًا متلاعبين، وتطولُ القائمة...

ويأتي على رأس قائمة المخاوف بالنّسبة لنا، معشر مزدوجي الميول الجنسية، عدم التّقبُّل، فمن الوارد جدًّا ألّا يتقبّلَ المغايرون جنسيًّا مزودجي الميول، خصوصًا إذا كانوا بالأساس أشخاصًا ضيّقي الأفُق ومصابين برُهاب المثليّة وازدواجيّة الميول الجنسيّة. لكنّ المضحكّ المبكي أنّ هذا الرّفض قد يأتي من أفرادٍ داخل المجتمعِ الكويريّ، حيثُ تسودُ لدى البعض منهم معتقداتٌ تمييزيّةٌ ضدَّ مزدوجي الميول، مثل أنّهم خائنون/ات بالفطرة، ليسوا كوير كفاية، مغايرون مُتخفّون، والكثير من العبارات المشينة التي يردّدها بعض أفراد المجتمع الكويريّ ضد مزدوجي الميول الّتي تحملُ الكثير من الوصم، مما يُعزّز إحساس الغربة لدى مجتمع مزدوجي الميول الجنسيّة، ويجعلهم يتردّدون قبل الإقدامِ على التّعرُّف بأيّة رجلٍ أو امرأةٍ داخل هذا المجتمع.

يتلُو هذا في القائمةِ خوفُنا أن نتحوّل إلى "فيتِش"، فالبعضُ من مغايري الميول يعتقدون أنّ الأنثى، بالأخصّ، مزدوجة الميول الجنسيّة "تارجت" لتحقيق فانتازيا أحلامِهم الجنسيّة بالقيامِ بعلاقةٍ جنسيّةٍ ثلاثيّة... ليس أنّني ضدّ العلاقات الثّلاثيّة، ولكن ما يزعجُني في الأمر هو حصرُ الفرد مزدوج الميول داخل هذا القالب الضّيّق، كأنّهُ وعاءٌ جنسيُّ.

ما يقلقني أكثر بشكلٍ شخصيٍّ حينما أبدأ في مواعدة رجلٍ مغايرٍ، أنّني لا أدري كيف سيتقبّلُ مَيلي للنّساء أيضًا، وإن كان سيظنُّ أنّ هذا يعني أنّي شخصٌ متاحٌ أيضًا لتحقيق رغباتِه هو كـ "هارون الرشيد"، وأن يجدَ نفسَه يومًا وسطَ امرأَتَين في فراشٍ واحد!! أم سيتجاهلُ جنسانيّتي من الأساس وكأن أمر ازدواج الميول الجنسيّة غير موجودٍ، وسيتلاشى التّطرُّق للحديث عنه ولن يستمعَ لمشاعري المختلفة، وهو ما حدث لي في تجربةٍ شخصيّةٍ مع أحدهِم بالفعل. من جهةٍ أخرى، يتعاملُ البعضُ مع الأمر بنظرةٍ ذكوريّةٍ مُتعاليةٍ تفترضُ أنّ الميلَ الجنسيَّ بين الإناث نوعٌ من المتعة الوقتيّة، ستنتهي بانتهاءِ فَورة الهرموناتِ بينَهُنّ.

تخوُّفاتي من المواعدة دائمًا تنحصرُ ما بين الوصم والرّفض، هل ستوصمُني إحداهُنّ إذا ما واعدّتُها بأنّني لستُ كوير كفايةً؟! أم سيرفضُني أحدُهم لأنّي أميلُ للنّساء! ودومًا يحاصرني سؤالٌ "هل يا تُرى سأجد سعادتي مع أحدهم أم مع إحداهنّ؟" ومازالت قائمةُ مخاوفي تطولُ، وأغلبُها تصلُ إلى نقطةٍ واحدةٍ "لحظة الاعتراف"، كيف سأخبرُه/ا بازدواجيّتي؟! هل أُخبره/ا في بداية العلاقة أم بعد مرورِ بعض الوقت؟ ولكنّي أخشى التّعلُّقَ ثمّ الرّفض!

لكنّ الحقيقة هي أنّ الواقع أسوأ، حيث أن نجدَ مساحةً بشريّةً مُريحةً تُطمئِنُ أفئِدتَنا نحن معشر الازدواجيّة، هي فرصةٌ تحتاجُ للكثير من الجهد والاجتهاد، حيث سيترتّب عليها بذلُ الكثير من الجهدِ في التّواصل والتّعبير عن النّفس وشرح نوايانا ومقاصدِنا ونفي التُّهمِ التي قد يُلقيها الشّريك/ة على عاتقنا. ولكن أليسَ هذا المطلوبُ بالأساسِ في أيّة علاقةٍ عاطفيةٍ بين طَرفَين؟ نعم، ولكن حينما يتمّ التّعامل مع شخصٍ مزدوج الميول كأنّه خائنٌ بالفطرة، وأنّه لدية قابلية الميل تلقائيًّا يومًا ما للطّرف الآخر، وعندما تتوجّهُ نحوهُ أصابع الاتّهام طوال الوقت، فنحنُ نحتاج ضعف المجهودِ الّذي يُبذلُ في أيّة علاقةٍ أخرى.

بشكلٍ شخصيٍّ، أنا أخافُ من الوصم أضعافَ خوفي من الرّفض، فقد وجدّت بعض القبولِ لدى من واعدّتهُم من المُغايرين، فمنهم من تقبّلَ الأمرَ بشكلٍ واقعيٍّ، ومنهم من تقبّل على مَضَضٍ وتجنّبه ولم يتطرّق للحديثِ عنه كأنّه "لعنة".ولكنّى لم أتحمّل نظرة خيبةِ الأمل لدى النّساء الكوير حينما أخبرهم عن ميولي المزدوجة، مع ترديد عباراتٍ مثل "لا تأخذي الأمرَ بشكلٍ شخصيٍّ، ولكن تعرفين ما يتردّد عن مزدوجي الميول" ثم تبتسم في ارتباكٍ؛ هذه المقولاتُ والمُعتقداتُ تُشعِرُني كأنّ المرور مسموحٌ ولكن يلزَمُني صكٌّ، صكُّ الكويريّة النّقيّ، ممّا يزوّدُ داخلي إحساسي بالغربة داخل المجتمع الكويريّ ويجعلُني أتساءلُ مِرارًا "هل أنتمي هنا؟"... وبعد فترةٍ قرّرتُ ألّا أنتميَ لمكانٍ.

المضحكُ في الأمر، تلك الأساطيرُ الّتي تتردّدُ عن مزدوجي الميول أنّ لديهم الكثير من الاختيارات، وكأنّهم يجدُون المتعة والحبَّ تحت كلِّ حجرٍ، ويتمرّغُون في متعةٍ لا متناهيةٍ بين الأجساد المختلفة. ولكن، يؤسفُني أن أشوّهَ هذه الأساطيرَ الشهوانيّةَ بواقعٍ أكثرَ تعقيدًا يجعلُنا نفكّرُ ألف مرّةٍ قبل الذّهاب في موعدٍ مع أحدهم/إحداهنّ، ويضع على كواهلنا عبءَ "اعترافٍ" قد يتمُّ رفضُنا بسبِبه، ونصبحُ في موقع نفي التُّهم عن أنفُسِنا ليلَ نهار.

كثيرًا ما أتساءلُ إذا يومًا ما أحببتُ رجلًا مُغايرًا وقرّرتُ الزّواج منه، هل سيتمُّ قبولي داخل المجتمع الكويريّ واعتباري نفس الصّديقة القديمة؟ أم سأتحوّل وقتها لـ"بتاعة رجّالة"؟ وإذا يومًا أحببتُ فتاةً وقرّرتُ الزّواج منها، هل سيتقبّلُني أصدقائِي والمجتمع والنّاس؟... فكما ترُون يا سيّدات ويا سادة، لدينا الكثيُر من الاختيارات، ولكنّها نوعًا ما.... مُغلقة.


مقالات أكثر:

Mesahat Foundation